تحاول جاهدا أن تستكشف مدينة الأسوار المعلقة، ندرومة القديمة، التي تقع في الحدود الجزائرية المغربية بعيدا عن الجزائر العاصمة بأزيد من 650 كلم، فترتحل بين نمط هندستها المعمارية، وفسيفساء أزقتها الضيقة الملتوية.
وبين بوابات البيوت التاريخية التي تحكي كل واحدة منها حقبا من العقد العتيق، تتمشى بين أحيائها النفيسة من بني زيد إلى قناوة، لكنك في حي القصبة تجد نفسك في ساحة التربيعة، يقابلك الجامع الكبير وبجنبه الحمام البالي المرابطي الذي يمتد عمره لأكثر من عشرة قرون خلت، ولايزال نفسه في مدينة ندرومة شاهدا على عصره يقارع الزمن.
هنا في الناحية الجنوبية الشرقية قبالة المسجد الكبير وجدنا ضالتنا، حديقة تعبق وردا وحبقا وياسمينا فواحا ممزوجا برائحة النار والجمر والحطب، ترحب بالزائرين، لافتة تبين تاريخ الحمام الذي تديره الدولة، حمام المرابطين الذي يرجع تاريخ بنائه كأقل تقدير إلى ما بين 1095 ميلادي و1147 ميلادي.
حمام يعمل على الحطب
وأنت تنزل في الدرج لتدخل عبر البوابة الرئيسية المصنوعة من الخشب، تجد مسير الحمام البالي، محمد بلزعر، يستقبلك وهو باسم الثغر كعادته، ليحكي تفاصيل تغيب عن الزائرين لهذا المعلم التاريخي. يقول محدث "قناة العربية": "تم تشييد هذا الحمام حسب المؤرخين قبل عشرة قرون كأقل تقدير، ولايزال إلى يومنا هذا يعمل بالطريقة التقليدية نفسها، يتم تسخين الماء حوالي 3000 لتر في قدر كبير فوق نار الحطب لساعات طوال منذ بزوغ كل فجر يوم جديد، ويتم تكرار العملية مرتين في اليوم ما عدا فصل الصيف الحار".
يتم تسخين الماء في موقد أرضي كبير يقع في خارج موقع الحمام، ينزل مُسيّر الحمام أو معاونه إلى الموقد عبر الدرج ويوقد الحطب في فوهة غرفة كبيرة تحمل قدرا حديديا ضخما يسع أكثر من 3000 لتر من الماء، ويتم تحويل الماء عبر قنوات متصلة مباشرة بالصهريج الداخلي للحمام.
فالحمام البالي الذي تم تشييده في عهد الدولة المرابطية قائم على أسس صحيحة، أعمدة تصدح في الفوق حاملة سقف المعلم عاليا في السماء، الصحن الرئيسي أو قاعة الاستقبال يطلق عليه المنطقة الباردة، يستريح فيها الوافدون بعد قضاء وقتهم في المنطقة الساخنة التي تشكل قاعة كبيرة تشطرها الأعمدة والأقواس إلى مساحات متداخلة فيما بينها، تتوسطها نافورة مياه تضفي نسائم خريرها أصواتا ترتشف مسامع الحاضرين، هندسة معمارية فريدة وحمام يبدو للوهلة الأولى عاديا لكن الباب المؤدي إلى بيت الاستحمام يكشف المزيد من أسرار هذا المعلم المرابطي.
الحمام مقصد وزراء الحكومة الجزائرية والشخصيات
هكذا ينقسم الحمام البالي إلى منطقة باردة وأخرى ساخنة ثم قاعة الاستحمام وتفصل بين القاعات بوابات خشبية، (الصحن الرئيسي أي قاعة الاستقبال والصحن الإضافي والقاعة أو بيت الاستحمام).
في قاعة الاستحمام التي نلج إليها عبر بوابتين تفصل بين الأولى والثانية مسافة متر واحد، قد تصعب عليك الرؤية في المرة الأولى بسبب البخار الكثيف المتصاعد من الماء الساخن، قاعة مستطيلة في أقصى يمينها الشمالي صهريج كبير به ماء ساخن، تضيء المكان فتحات تهوية في السطح، ويميز الحمام لون الجير الأبيض، سواء في الداخل أو الخارج، أما البلاط فياجوري عتيق، وعلى شكل قوس توجد الجابية، وهي مصطلح محلي تعني صحنا يغمره الماء، وعلى شكل درج يقعد المستحمون.
وفي الجهة اليسرى توجد قاعة أخرى للاستراحة، يقول محمد بلزعر لـ"العربية.نت": "الكثير من زار هذا المكان للاستحمام شفي من علته وسقمه، خاصة أمراض المفاصل والظهر"، ويستدل محدثنا بحالات عديدة منها: "شيخ طاعن في السن قدم من محافظة أدرار التي تقع في الجنوب في الصحراء الجزائرية، ظهره معتكف ولا يقوى على أن يرفع قامته مستقيما كأنه في وضعية الركوع دوما، لكنه بعد مرة واحدة من استحمامه، خرج وكأنه لا علة به، مستقيما، واقفا حتى إنه لم يصدق ذلك بنفسه"، ويشهد الحمام البالي توافد شخصيات مهمة جدا من وزراء حاليين وسابقين في الحكومة الجزائرية وشخصيات سياسية ودينية من داخل وخارج البلاد.
سرداب سرّي يؤدي إلى قصر السلطان الموحدي
ومن أسرار الحمام البالي وجود سرداب يؤدي إلى قصر السلطان الموحدي في حي القصبة بندرومة، الذي يبعد عن الحمام بحوالي 1000 متر، لكن مسيّر الحمام البالي أكد لـ"العربية.نت" أن عمليات البناء المتواصلة لضواحي المكان أثّرت على السرداب الذي تهاوى بفعل حفر أساسات البيوت الجديدة، وبحسب بعض من تحدثت إليهم "العربية.نت"، فإن المدينة العتيقة تحوي العديد من الأسرار والمعالم التاريخية تنتظر أن يتم الكشف عنها من طرف المؤرخين وعلماء الآثار ووزارة الثقافة في الجزائر، فهل من مجيب؟
عبد الجبار بن يحي - قناة العربية.نت
تعليقات
إرسال تعليق